لم تفاجئك ثورةُ الحجر ، وانتفاضةُ المقلاع ، لم يباغتك هديرُ الدم الممتد من عروق نابلس إلى مطار غزة.
كنت ترى دمَكَ راكضاً يدق الأبوابَ غير آبهٍ برغو الكواليس الرطبة ، ومنصاتِ المهرجانات .
دمُك هو مكاتيبُك في وجه الوافدين من خلف المحيطات ، من آخر جهاتِ الأرض يسدُّون عناوينَك بأنيابِهم ، يشوونك بلهيب داناتهـم ، يخلعون شعرَك وأظافرَك ، يصادرون النوافذَ والأرصفةَ ، تصبحُ حتى أحلام أطفالك بحاجة إلى تصاريح مرورٍ منهم ، ينثرونك أشلاءً وفتافيتَ ، ثم يطلبون منك صكَّ صلحٍ ، وبيعةَ سلام .
فِما الذي تبقى لنا غير دمنا في عالم لا تحركه إلا منافعُه ، عالمٍ لا يرى إلا من خلال ثقب إبرةِ مصالحه ، عالمٍ يُروّجُ رواياتِ بني إسرائيل ، يتهمون أمَك ، وشقيقتك وزوجتك وحبيبتك بأنهن يبعثنَ أبناءَهن ، أحبابَهن ، قِطعَ لحمِهن إلى محاور المواجهة كي يتصدروا ماكينة الإعلام ، يحاولون أن ينزعوا الإنسانَ من إنسانيتك ، أن يُسوِّقوك للعالم آلةً صمـاءَ ، عجفاءَ ، وأنت الذي لم تنهض إلا دفاعاً عن باب بيتك وحجارةِ حارتك ، وهل بَعُدَتْ ساحاتُ النزال يوماً عن غرفةِ نومك ، عن مقاعدِ صفك ، عن أرجوحةِ روضتك ؟
هل نَزَلْتَ عليهم من كوكبٍ أخر أم أنهم هم الذين يحتلون برَّك وبحرَك وسماواتِك وموطئ قدميك ؟ هم الذين يسلبون الهواء من رئتيك ، و رئات الناس جميعا ً.
فلا وقتَ للتردد ، لا وقت للتحسر ، لا وقت إلا لقصائد دمنا تُروضُ النيرانَ والدخانَ على بوابات جنين و رفح وغزة و الخليل ، لتنقشَ تاريخاً أخر فوق الحيطانِ المائلة ، حيطانِ قبائل الشجبِ المبعثرةِ التائهة ، تاريخاً تصنعه مشيئةُ الشهداء ، مشيئة الحراس ، العشاق الباقين المنتشرين على جسد الرمل .
* * *
اليوم ينهض محمد الدرة ، و فارس عودة ، وسارة عبد الحق ابنة العامين ، و إيمان حجو ابنة الشهور الأربعة ، يأتون فراشاتٍ لم تغادر الأقمطةَ يحلمون باقتناء كراسة رسم أو كرةٍ ملونة ، ولكن كيف السبيل وهم محاصرون بديفيد ومردخاي وباروخ و القناص الذي يحتمي بباطون المستوطنة ، يَسدُّ الأرصفةَ بأنيابه ، يشويهم بقذائفِ المروحيات ، يمنعُ الهواءَ والماءَ والتقاوي عن أكفهم الطرية .
نعتذر لكم يا محمد الدرة ، و فارس عودة ، وسارة عبد الحق ابنة العامين ، و إيمان حجو ابنة الشهور الأربعة وأنتم تحلمون بالعودة إلى مقاعد الروضة ، إلى علبِ الألوان ، والمساطر والمحابر ، تداعبون أعشاشَ العصافير بعيداً عن رصاص الغزاة ، نعتذر لكم ، لكغكغاتكم المحظورة ، لنومكم بعيون مفتوحة خوفاً من أفاعي صهيون التي تلاحقكم ، تنهشُ لحمَكم ، تلعقُ دمَكم في انتشاء .
إنه وقتُ الشهداءِ الأحياءِ ، الشهداءِ الحراس ، الشهداءِ المواعيدِ ، الشهداء الدفاتر ، يتقدمون خارطة الجرحى و الأمهات و الحبيبات و المأسورين ، يتقدمون الأزقةَ الباقيةَ معابرَ تأبى أن تُصاد ، تأبى اللجمَ ، تأبى الهدمَ ، فتصغر أمام خفقات وصاياهم ماسورةُ الدبابة ، تتضاءلُ أمام وجوههم الصابحة شفراتُ جنازيرها .
ها هم الشهداء ينهضون الآن في غزة خيلاً ، شجراً ، يمتدون علامةً فارقة تقتلع الأكفان و البساطير ، تقتلع ديفيد ومردخاي وباروخ ومشانقَ المستوطنة ..
* * *
ها هم الشهداء يتقدمون ، يَتْلُون أجملَ القصص و لو كَرِه الكارهون .