يحتضـن مساحات الطيارة براحتيه .. يتحسس أجزاءها ..يتأمل عيدان البوص .. خيوط الميزان .. ورق الشفاف الملون .. ذيل الطيارة .. ألوان متداخلة ، ألوان متشابكة اختارها بعد طول إلحاح .. بكاء .. معاندة ، توسل حتى استطاع أن يحصل على الورق ، العيدان ، يجمع الخيط فوق الخيط .. تمتد أصابعه تستخرج لفة الخيطان من تحت الوسادة .. لفة منفوخة تكفي لدفع الطيارة إلى أعلى نقطة في السماء .. إلى النجمة البراقة .. نجمته الصافية التي تسيل شعاعاً ملوناً كألوان طيارته .
قال له عمه وهو يجهز الطيارة :
ـ الطيارة التي بها ألوان العلم لا يقدر عليها الريح ، لا يغلبها
شيء ، تظل تصعد وتصعد حتى تصل إلى النجوم .
عندما كان يلمح أحداً يصنع طيارة كان ينزرع قربه .. لا تفوته المراقبة ، تتلاحق أنفاسه .. تقشير عيدان البوص .. تجزئتها .. ضمها إلى مركز معين ، شد الخيطان حول كل طرف .. لصق الشفاف .. عمل الشراشيب .
ترى كيف يقيسون الأبعاد المختلفة لميزان الطيارة ؟
كيف يحسبون المسافة بين عيدان البوص ؟
شمس متوهجة ، زقزق في قلبه الفرح ، يثب نحو الساحة ، صوت أمه يلاحقه :
ـ خذ بالك يا عزت من نفسك ، لا تبتعد عن الساحة .
سيكون اليوم يوم طيارتك ، ستعلو كل الطيارات ، تسابق السحاب .. تقفز عن كل الحواجز .. تتخطاها .. سيصاب (أحمد) ابن عمك بالدهشة بالخيبة .. ستشتبك مع طيارته .. تشد ذيلها بخيطك .. تقطعه .. تطوح به .. تسقط طيارته ، يتراكض الأولاد صارخين في فرح (نهيبة ) وهم يتكومون فوق بقايا الطيارة المنهارة .
زحف إلى عقله خاطر مفاجئ .
هل سيتركها (أحمد) تمر بسهولة .. سيهجم عليك بالتأكيد ..ينتزع لفة الخيطان من يديك .. تحاول أن تدافع عنها .. تفر من أمامه .. سيلاحقك .. يقطع خيطك .. من السهل عليه أن يفعل ذلك .. لن تهنأ برؤية طيارتك ثانية .. سيظل يدفعها الريح .. يدعس كل جزء فيها .. تفارقك ولن يفارقك تعب الحصول عليها .
لا داعي للاشتباك معه إذن .. الفضاء واسع .. السماء فسيحة .. لترتفع الطيارتان معاً ، تتجاوران .. تتسابقان .. تتنططان .
كم يتمنى لو تحول إلى بوصة معلقة في الطيارة ، قطعة ورق ملونة ، شرشوبة ، خيط يمتد ، يصعد ، يسوق السحب أمامه ، تصغر من تحته البيوت ، تذوب .. تتلاشى ، يخرج لسانه للريح .. ينقذف إلى حيث ترقد تلك النجمة اللامعة البراقة .
أصوات لاهثة .. أولاد يتدافعون من حوله :
ـ جيبات اليهود قادمة من آخر الشارع .
يبتعد عن حافة الإسفلت .. تتمترس أصابعه فوق الخيط .. يقبض عليه بكلتا يديه .. يتمنى لو تتحول طيارته إلى مقلاع .. حجر كبير .. صخرة مدببة تخترق سقف الجيب ، تسد عليه المنافذ .
قلق يدهمه ، ترى هل سينتهبون إلى ألوان الطيارة ؟ هل يفعلونها ؟ ينتزعونها منه ، يحملونها معهم عدا اللطم والغرامة كما قالت له أمه .
ينتشر الجد في ملامحه .. لن يعطيهم فرصة الاستيلاء على طيارته .. لن يسمح لهم بذلك ، يدفع الخيط إلى آخر مداه ، آخر نقطة فيه ، ترتفع الطيارة ، تبتعد ، تصبح بحجم الكف .
صوت دوي طلقات .. يتطوح .. ألم حاد في ظهره .. يتحسس مكان الخبطة .. دم يكسو راحته .. دم يصبغ الخيطان .. وجع .. سخونة تحرقه ، تنغرز أصابعه على الخيط .. تتوه نظراته .. ورق شفاف يتقطع .. أعواد بوص تتقصف .. نجمة تتطاير .. تتناثر .. تتفتت .. تتهاوى .. ينقلب على جنبه .. شهقات متلاحقة .. شعاع يندفع من عينيه الغائمتين ليحتضن نجمة براقة بعيدة .