والشمس ترسل خيوطها الأولى تغادر باب بيتك .. لا تدري أين تقودك قدماك ، أين تصل بك الطريق ، يسكنك القهر ، الغصة قمم في داخلك ، يكاد رأسك ينشق ، يقولون إن من الأفضل إبلاغ الصليب الأحمر في مثل هذه الحالات، خاصة أنه لا يحمل بطاقة هوية ، صغير السن .
قبل انتصاف الليل كانت درباكاتهم تمزق قلب السكون ، بساطير ، زمجرات لا سلكي ، رطن ، ارتطامات أحذية ثقيلة ، طرقات ، يكاد الباب ينسحق تحت ضرباتهم ، تهب مفزوعاً إلى الحوش ، الكشافات تدمي عينيك ..
هراوات تلكز خاصرتيك ، كتفيك ، يرشقونك بكلمات تقطر سياطاً :
ـ أين الأولاد ؟
يندفعون صوب الأبواب ، يدفعونك ، يفلت منك توازنك ، يرفرف أمجد بين أيديهم كعصفور ابتعدت عنه الأشجار .
ـ ماذا تريدون ؟ إنه صغير ، لا يحمل هوية .
يزقونك ، يجرجرون "أمجد " يلقمونه الأرض ، صراخ ، خنجر مثلوم يحز شرايينك ، تركض خلفهم ، يدفعونك ، تنقلب على ظهرك ، رغو فوار يتكدس في الحلق.
ـ نحن في حالنا ، ليس لنا دعوى ، لا نحتك بأحد ، لا جيش ولا غيره .
تتوه منك الطرق والأبواب ، حيلتك للزمن ، ولد على رأس خمس بنات ، تتطلع فيه مئات المرات ، تضعه بين عينيك ، ترخي عليه جفونك ، هل يهمهم صليب أو غيره؟ المطلوب مطلوب ، لا بد من إبلاغ الصليب ، إبلاغ طوب الأرض إذا لزم الأمر ، لكن كيف الوصول إلى غزة ؟ وصول غزة اليوم أصعب من دخول جمل في ثقب إبرة .
المشكلة ليست في المشي ، ليست في انعدام السيارات ، المسافة من جباليا إلى غزة ليست بعيدة ، كثيراً ما قطعتها مشياً ، المشكلة أن الملاعين لا يتركون أحداً في حاله ابداً، اليوم إضراب ، يتصيدون المارة لرفع المتاريس ، إطفاء الإطارات ، إزاحة الحواجز ، وتمر ساعات النهار ثقيلة بطيئة وأنت لم تصل إلى مقصدك .
تأتيك فكرة ، لماذا لا تتلفن من العيادة ، ذلك أسرع وأجدى وأسلم .
صورة "أمجد" تسد عليك الطريق ، طول الوقت وأنت تطلب منه أن يظل في حاله، أنت صغير على المطاردة والرجم وتعب البال ، ماذا يمكن لباطن اليد أن تفعل في مواجهة حد السكين ؟؟ تعلم أنه يتظاهر بسماع كلامك .
كان يحاول أن يرضيك بتظاهره ، ترى أين ذهبوا به ؟ هل سلموه إلى أنصار مباشرة ، أم أبقوه في مركز الجيش طول الليل ؟
رجفة تدهمك ، تعلم تماماً ما يحدث في مركز الجيش ، قصة (هاني الشامي) لا تغادرك ، انتزعوه من بيته عصر يوم ، قالوا في روايتهم المسلوقة، روايتهم المعدة للتسويق أنه قاوم اعتقال ابنه الصغير ، ظلوا يضربونه وهو مقيد اليدين والرجلين على كل بوصة فيه بالهراوات وأسياخ الحديد أمام ابنه، يدعسون على صدره ووجهه حتى انطفأت في رئتيه الأنفاس ، غادر الضوء عينيه ، تشربت حيطان المركز نوافير دمه وفتافيت لحمه.
َ َ َ
تقترب من الساحة الموصلة للعيادة ، جمهرة ، أصوات ، صخب ، حشد ، يباغتك فزع، تنزلق فوق الشارع ، أصوات مشحونة بالغضب :
ـ يقولون أنهم وجدوا ثلاثة أولاد معصوبي الأعين ومقيدين من أطرافهم ، ألقاهم اليهود في بيارة عساف بعد أن كسروهم ،ولولا لطف ربك وعنايته ما بقي أحد حياً ، امرأة سمعت أنينا جنب السياج ، نادت الخلق ، لحقوا بهم على آخر نفس .
تندفع إلى غرفة المعالجة ، أجساد نحيلة غضة ممددة فوق النقالات ، أجساد ترشح دماً وطيناً وماء ، همهمات ، حشرجات ، أنين ، تيار بارد يثلجك دفعة واحدة ، صدرك يعلو ويهبط ، تغادرك صرخة متصدعة ، صرخة نازفة :
ـ أمجد ..
صوت الطبيب متسارعاً :
ـ لا بد من نقلهم إلى مستشفى الشفاء ، يحتاجون إلى عمليات نقل دم ، هناك كسور ونزيف.
تتدافع مجموعات من الشباب نحو السيارات التي تحمل الصبية ، يتكدسون داخلها ، يشمرون عن سواعدهم ، نقالات ، غابة من الأيدي ، الدم يعفر المكان ، ينقر عظامك ، تغيم عيناك ، ماء مالح يتخثر في فمك ، حرقة ، حيلتك للزمن ، تشبعه وصايا في الطالع والنازل، ذهاباً وإياباً ، تغمض عليه جفونك ، تغالط الحقيقة المختبئة داخلك ، الحجر أمام الدبابة ، باطن اليد وحد السكين .. تجاسر مرة ورد عليك :
ـ إنهم لا يتركون أحداً في حاله ، يتحرشون بكل الناس ، لا أحد يسلم من شرهم .
كلامه ما يزال يتفجر ساخناً في أعماقك .
القاعد والقائم سيان عندهم ، لا أحد ينجو من بلائهم ، لا يستثنون كبيراً أو صغيراً، ينغصون على الكل ، الابتعاد عن طريقهم لا يجدي ، دفن الرأس في التراب وماذا تفعل باطن اليد إزاء السكين يجعلهم يتمادون أكثر ، يطمعون في دمك ولحمك أكثر فأكثر ..
باطن الكف يمكنها أن تتحول إلى سيف يثلم حد السكين ، يكسره ، يهرسه إذا اكتست عزماً وصلابة ، الحجر حِصن للحمك ، المقلاع قلاع لدمك ، لدم الناس جميعاً .
هتافات خارج العيادة ، متاريس ، حجارة ، مقاليع ، قضبان حديد ، مواسير إسمنتية ، دخان ، مجموعات نساء ينقلن الحجارة في سلال ..
تتمنى لو تتشظى مقلاعاً ، حجراً في أيدي الشباب ، غضباً ينهمر على مركز الجيش.
وأنت تركب سيارة الإسعاف يهاجمك سؤال الطبيب :
ـ من منهم ابنك ؟
تصمت لثوان ، صور مشبوبة تسابق اندفاعة السيارة ، بدا صوتك معجوناً بالدم والطين وأنت تقول له :
ـ كلهم أبنائي .