صفاء الحب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى الحب والرومانسية والجمال والثقافة
 
الرئيسيةمنتدى الرياضةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 عيون ليوسف

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
صفاء الحب
Admin
صفاء الحب


المساهمات : 340
تاريخ التسجيل : 28/01/2009

عيون ليوسف Empty
مُساهمةموضوع: عيون ليوسف   عيون ليوسف I_icon_minitimeالأربعاء فبراير 04, 2009 3:01 am

كان يتنطط مثل الحسون ، حديثه مع أصحابه مختلف هذه المرة ، كلماته تخطت المقالب التي يجيد سبكها وأعشاش العصافير التي يتفنن في مداعبتها وكرة القدم التي تمكن أخيراً من شرائها من أحد باعة البضاعة القديمة ، ومحل الأتاري الذي يلوذ به متتبعاً نزال اللاعبين الصاخب حالماً يغادر المدرسة ، لينصب حول موضوعات جديدة احتلت الوجدان في الشهور الأخيرة :
…. طائرة الأباتشي ، إم 16 ، القناص ، رصاص 250 ، رصاص 500 ، المقلاع ، الحجر ، الشهداء ، الجرحى ، سيارات الإسعاف .
*
طرف المخيم من الناحية الشمالية ، إطارات مشتعلة ، هتافـات ، عربة مقلوبة ، براميل فارغة ، ثمة مجموعة من الصبية ، أكف طرية ، فراشات لم تغادر الأقمطة تنتشر فوق جسد الرمل ، نداءات ، مسبحة الحجر تأبى اللجم ، أبواق سيارات إسعاف ، رصاص يتطاير ، الجنود يتمترسون خلف حواجز إسمنتية بعيدة ، مسافة لا تصلها حجارة الصبية ، أزيز طائـرة ، رشقات رشـاش ، قناص يحتمي بساتر باطون ، يوزع رصاصاته، ينثرها .
المكان مكشوف ، ينبطح الفتية على الإسفلت ، يحتمون بإفريز الرصيف ، يفتشون عن ظل وغطاء ، رصاص القنص يمرق من فوق رؤوسهم ، يحاولون الاحتماء في اللاشيء ، يتشبثون بصفحة الشارع ، يتوقف الرصاص لثوان ، يرفع (يوسف) رأسه ، يتشمم خبراً ، رصاصة تستقر في رقبته ، شظية تقتلع عينه ، أمواس حادة تمزقه ، صراخ ، أصابعه تتشبث بالهواء ، أنين ، جفاف في الحلق ، ينقلب على جنبه ، يتراخى ، تغادره الصور .
َ َ َ
مستشفى الشفاء ، تزاحم ، أبواق سيارات الإسعاف لا تنطفئ ، تساؤلات تحتل الوجوه ، قلق ، ترقب ، يتدافع الشباب زاداً ، دماً و شرايين ، عيون تبحث عن خبر ما ، تفتش عن عزيز ، اسم شهيد أو جريح .
ضمادات ، أربطة ، إبر ، أنابيب رفيعة تنتشر عبر الجسد الصغير ، تمتد صوب أجهزة متعددة الأشكال ، غرفة العناية المركَّزة ، لم يعد لأسرة (يوسف) مكان غير ممرات المستشفى ، أضحت الهموم جزءاً من حياة أفراد الأسرة ، وكيف تأتي راحة البال وهم يرون الغالي يتحول إلى جثة مرخية أمامهم ؟!
يدور الأب من طبيب إلى آخر ، عيناه غابة من التوسل والرجاء ، يبحث عن إجابة تعيد للنفس بعض هدوئها .
ـ إمكانياتنا محدودة في مستشفى الشفاء ، حالة ( يوسف) حرجة تحتاج إلى عمليات جراحية دقيقة ، سنعمل على تسفيره ضمن قافلة الجرحى التي ستتوجه للعلاج بعد أيام إلى مصر .
أوراق ، أختام ، إمضاءات ، قلق لا ينتهي في انتظار التحويلة .
َ َ َ
أربعة أشهر كاملة أمضاها (يوسف ) في مستشفى ناصر ، اثنتا عشرة عملية جراحية أجريت في رقبته وعينه ، عندما بدأ يستعيد وعيه سمع الطبيب وهو يبلغ والده أنهم سيقومون أخيراً بتركيب عين زجاجية عوضاً عن العين المفقوءة ، اعتقد (يوسف) لفترة أن العين الموعودة لن تختلف عن تلك التي مزقها رصاص القناص الإسرائيلي ، وأن النور عائد ثانية إلى عينه ، سيرى الناس مرة أخرى ، سيرجع لهتافاته وهو يتتبع نزال اللاعبين في محل الأتـاري ، سيتنطط ثانية فوق شوارع المخيم وهو يطارد كرته العتيقة المحبوبة ، يداعب أعشاش العصافير ، ولن يعيقه شيء بعد اليوم .
عندما أزالوا الأربطة عن عينه ، اكتشف أنه لم يعد يبصر الأشياء إلا ببقية نور في عينه اليمنى ، أكوام من العتمـة ، فراشة حبيسة الأقمطة ، كم كره تلك العين الزجاجية التي احتلت جفنيه ، يحس بعذاب لم يعرفه من قبل حينما يقوم بلبسها أو خلعها ، أكد الطبيب لأبيه أن تلك العين بحاجة إلى تغيير بعد ستة أشهر حتى تتناسب مع وجهه .
َََ
عندما عاد إلى المدرسة بعد ستة شهور لم يكن (يوسف) ذلك الطفل الذي كان يكفيه الانتباه إلى شرح المعلم كي يحجز مرتبة متقدمة بين أوائل الصف ، تراجع ترتيبه ، لم تعد كرة القدم التي كانت ترقد إلى جانب وسادته تراود خياله ، ابتعدت عن عينه ألعاب الأتاري ، تبخرت أعشاش العصافير ، ذابت ، أصبح كل همه الآن الابتعاد عن باقي أقرانه ، تحولت الصور أمامه إلى خيالات ، فراشات غادرتها الألوان ، كل أحلامه الآن محصورة في تغيير تلك العين الزجاجية التي زاد عمرها عن العاميـن ، حتى الدواء الذي حمله أبوه من المستشفى الخاص بتنظيف باطن العين نفد ، لم تُجدِ محاولات الأب نفعاً في سبيل توفيره .
فهل يمكن أن يحوز على عين زجاجية أخرى تتناسق مع هيئة عينه الباقية التي بدأ الضوء ينسحب منها شيئاً فشيئاً ؟
من يُعيد إليه الأجنحة التي فارقته ، والشوارع التي غادرته ؟
من يعيد إلى الفراشات ألوانها ؟
من يُرجع النور إلى عينين اغتالهما قناص يحتمي بالطائرة والرشاشات وسواتر الباطون ؟؟ .

* * *
مهداة إلى من قُصفت طفولته
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://safaaelhob.hooxs.com
 
عيون ليوسف
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
صفاء الحب :: الشعر والخواطر والإبداع القصصى :: الإبداع القصصى-
انتقل الى: