كان يتنطط مثل الحسون ، حديثه مع أصحابه مختلف هذه المرة ، كلماته تخطت المقالب التي يجيد سبكها وأعشاش العصافير التي يتفنن في مداعبتها وكرة القدم التي تمكن أخيراً من شرائها من أحد باعة البضاعة القديمة ، ومحل الأتاري الذي يلوذ به متتبعاً نزال اللاعبين الصاخب حالماً يغادر المدرسة ، لينصب حول موضوعات جديدة احتلت الوجدان في الشهور الأخيرة :
…. طائرة الأباتشي ، إم 16 ، القناص ، رصاص 250 ، رصاص 500 ، المقلاع ، الحجر ، الشهداء ، الجرحى ، سيارات الإسعاف .
*
طرف المخيم من الناحية الشمالية ، إطارات مشتعلة ، هتافـات ، عربة مقلوبة ، براميل فارغة ، ثمة مجموعة من الصبية ، أكف طرية ، فراشات لم تغادر الأقمطة تنتشر فوق جسد الرمل ، نداءات ، مسبحة الحجر تأبى اللجم ، أبواق سيارات إسعاف ، رصاص يتطاير ، الجنود يتمترسون خلف حواجز إسمنتية بعيدة ، مسافة لا تصلها حجارة الصبية ، أزيز طائـرة ، رشقات رشـاش ، قناص يحتمي بساتر باطون ، يوزع رصاصاته، ينثرها .
المكان مكشوف ، ينبطح الفتية على الإسفلت ، يحتمون بإفريز الرصيف ، يفتشون عن ظل وغطاء ، رصاص القنص يمرق من فوق رؤوسهم ، يحاولون الاحتماء في اللاشيء ، يتشبثون بصفحة الشارع ، يتوقف الرصاص لثوان ، يرفع (يوسف) رأسه ، يتشمم خبراً ، رصاصة تستقر في رقبته ، شظية تقتلع عينه ، أمواس حادة تمزقه ، صراخ ، أصابعه تتشبث بالهواء ، أنين ، جفاف في الحلق ، ينقلب على جنبه ، يتراخى ، تغادره الصور .
َ َ َ
مستشفى الشفاء ، تزاحم ، أبواق سيارات الإسعاف لا تنطفئ ، تساؤلات تحتل الوجوه ، قلق ، ترقب ، يتدافع الشباب زاداً ، دماً و شرايين ، عيون تبحث عن خبر ما ، تفتش عن عزيز ، اسم شهيد أو جريح .
ضمادات ، أربطة ، إبر ، أنابيب رفيعة تنتشر عبر الجسد الصغير ، تمتد صوب أجهزة متعددة الأشكال ، غرفة العناية المركَّزة ، لم يعد لأسرة (يوسف) مكان غير ممرات المستشفى ، أضحت الهموم جزءاً من حياة أفراد الأسرة ، وكيف تأتي راحة البال وهم يرون الغالي يتحول إلى جثة مرخية أمامهم ؟!
يدور الأب من طبيب إلى آخر ، عيناه غابة من التوسل والرجاء ، يبحث عن إجابة تعيد للنفس بعض هدوئها .
ـ إمكانياتنا محدودة في مستشفى الشفاء ، حالة ( يوسف) حرجة تحتاج إلى عمليات جراحية دقيقة ، سنعمل على تسفيره ضمن قافلة الجرحى التي ستتوجه للعلاج بعد أيام إلى مصر .
أوراق ، أختام ، إمضاءات ، قلق لا ينتهي في انتظار التحويلة .
َ َ َ
أربعة أشهر كاملة أمضاها (يوسف ) في مستشفى ناصر ، اثنتا عشرة عملية جراحية أجريت في رقبته وعينه ، عندما بدأ يستعيد وعيه سمع الطبيب وهو يبلغ والده أنهم سيقومون أخيراً بتركيب عين زجاجية عوضاً عن العين المفقوءة ، اعتقد (يوسف) لفترة أن العين الموعودة لن تختلف عن تلك التي مزقها رصاص القناص الإسرائيلي ، وأن النور عائد ثانية إلى عينه ، سيرى الناس مرة أخرى ، سيرجع لهتافاته وهو يتتبع نزال اللاعبين في محل الأتـاري ، سيتنطط ثانية فوق شوارع المخيم وهو يطارد كرته العتيقة المحبوبة ، يداعب أعشاش العصافير ، ولن يعيقه شيء بعد اليوم .
عندما أزالوا الأربطة عن عينه ، اكتشف أنه لم يعد يبصر الأشياء إلا ببقية نور في عينه اليمنى ، أكوام من العتمـة ، فراشة حبيسة الأقمطة ، كم كره تلك العين الزجاجية التي احتلت جفنيه ، يحس بعذاب لم يعرفه من قبل حينما يقوم بلبسها أو خلعها ، أكد الطبيب لأبيه أن تلك العين بحاجة إلى تغيير بعد ستة أشهر حتى تتناسب مع وجهه .
َََ
عندما عاد إلى المدرسة بعد ستة شهور لم يكن (يوسف) ذلك الطفل الذي كان يكفيه الانتباه إلى شرح المعلم كي يحجز مرتبة متقدمة بين أوائل الصف ، تراجع ترتيبه ، لم تعد كرة القدم التي كانت ترقد إلى جانب وسادته تراود خياله ، ابتعدت عن عينه ألعاب الأتاري ، تبخرت أعشاش العصافير ، ذابت ، أصبح كل همه الآن الابتعاد عن باقي أقرانه ، تحولت الصور أمامه إلى خيالات ، فراشات غادرتها الألوان ، كل أحلامه الآن محصورة في تغيير تلك العين الزجاجية التي زاد عمرها عن العاميـن ، حتى الدواء الذي حمله أبوه من المستشفى الخاص بتنظيف باطن العين نفد ، لم تُجدِ محاولات الأب نفعاً في سبيل توفيره .
فهل يمكن أن يحوز على عين زجاجية أخرى تتناسق مع هيئة عينه الباقية التي بدأ الضوء ينسحب منها شيئاً فشيئاً ؟
من يُعيد إليه الأجنحة التي فارقته ، والشوارع التي غادرته ؟
من يعيد إلى الفراشات ألوانها ؟
من يُرجع النور إلى عينين اغتالهما قناص يحتمي بالطائرة والرشاشات وسواتر الباطون ؟؟ .
* * *
مهداة إلى من قُصفت طفولته